top of page
صورة الكاتبملاك الراشد

بطاقة بريدية من اليونان

لم أكن يومًا ممن يهوى السفر في الصيف، ولم تُثرني فكرة الجلوس على الشاطئ وتأمل البحر، ناهيكم عن السباحة! كان ينتابني شعور غريب إزائها- لا زال بعضٌ من هذا الشعور يلازمني حتى الآن - إذ لطالما اشمأزيت من إحساس البلل الذي يعقبها؛ بشعري وهو يلتصق على رقبتي وأكتافي، رطب ومُتيبس، وبأني حين أعصرهُ، ستكون قدماي متوغلة في الرمل، وهو ما كان ليجد طريقه حتمًا لصندلي. والأشد نفورًا، هي فكرة الشعور باللزوجة الذي سيعتريتي، وصورة لمظهري الذي سيبدو أشعث مُبعثر، تفوح منه رائحة الملح. باختصار، كُنت أخاف أن أبدو ”برية“. لذلك، باستثناء بضع مرات نُزر في طفولتي، لم أسبح في البحر. كُنت أحب أن أظل مُهندمة دومًا، فأكاد لا أخرج من منزلي دونما أن أضيف لشعري واقي الشعر (سيروم) ليزيد ثباته، وأن أتأكد بأني أبدو أنيقة، وأن ثنيات ردائي لن تتجعد. كمومياء فرعونية مُحنطة، كُنت أسدُ مساماتي، واعزلني عن الرطوبة، وقد سرني ذاك التحنيط الذي حبست نفسي فيه. لكن، وكعادة الأشياء، تغيرت، وكعادتها أيضًا، فلتغيري مباعث كُثر. أولها، زوجي، النقيض الحقيقي للمومياء، مع أني أشعر أننا نتشابه أكثر مما نختلف، إلا أنهُ كائن حيوي يتحرك بُحريةِ في العالم، دون أن يأبه بشيء، بينما أتوتر أنا وأفكر بألف عاقبة قد تلحق بي، وأُثقل كاهلي باحتمالاتِ غريبة، مثل وحش اللزوجة!


دفعني أكثر من مرة لمواجهة مخاوفي، وهذه المرة، لم يدفعني فقط لتعلم السباحة في المياه الضحلة، إنما علمني الطفو، وبطريقة قاسية. في البداية، وقبل عامين تقريبًا، تعلمت أن أنتقل سباحةً من نقطة أ إلى نقطة ب بالسباحة الحُرة، وهي الأسهل تعلمًا: تقف على أطراف أصابعك، تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تقذف جسدك كامًلا، مساويّه بالسطح، بعدها تمد ذراعك اليُمنى باستقامة، وكأنك تُريد أخذ الماء نحوك، تُرجعها خلفًا، ثم تفعل الشيء نفسه بيدك اليُسرى، على أن تركل وركيّك بحركات صغيرة وسريعة، بين كُل هذا، أخرج رأسك لاستنشاق الهواء. هكذا ببساطة، ستعتاد كثرة هذهِ الحركات بسرعة، ومع الوقت ستكون بمنزلة شيء فطري طبيعي تعرفه مُنذ زمن. بيد أني لم أتشجع أبدًا للانتقال لمكانِ لا تلمس أطراف قدمي الأرض فيه، كانت الفِكرة بحد ذاتها مُفزعة ومُقلقة لشخصِ نفسي: مُحنط ويخاف المفاجآت.



هذهِ المرة، علمني زوجي كيف أعوم؛ كُل ما كان عليَّ فعله هو تحريك قدمّي كما لو كنت أركب دراجة هوائية (وهو ما كُنت أعرفه سلفًا)، ما كان جديدًا عليَّ هو حركة ذراعيّ؛ إذ تعلمت أن أحركهما بدءًا من مرفقي، ذهابًا وإيابًا، في حركة دائرية صغيرة، وكأني أرسم الرقم ثمانية بهما. بدأت أفعل ذلك في المياه الضحلة، واستمررت أعوم دون أن ألمس الأرض. كلما ابتعدت أكثر، من وقت لآخر، كنت أتأكد من أن قدمي لا تزال تلامس الأرض. بمجرد أن تأكد زوجي أني أتقنت العوم، حملني فوق قدرتي على لمس الأرض ثم تركني! ظننت أني سأموت، وبتّ أصرخ بجنون، وفي وسط فزعي، أدركت أنني كنت أسبح! كنت أصرخ وأسبح! أخافتني الفكرة، فسبحت بسرعة نحو المياه الضحلة. كان قلبي ينبض بشدة، وبعد تنهيدة طويلة، نظرت نحو البحر العميق، وزوجي في آخره يضحك بشدة، ضحكت له ويداي تتحركان بمرونة، ومن ثم، طوحت برأسي، غمرت شعري، وطفت على ظهري لتسقط أشعة الشمس على جسدي كاملًا. آنذاك، كانت حواسي مُنفتحة على شعور جديد أسميته: «التحلل»، وهو ألا أكترث لكيف أبدو أو بكيف سأشعر، وأن أسمح لنفسي بالتحلل من كُل مسؤولية، واترك أجزائي لتنفصل، نظرت نحو السُحب، وضحكت لفكرة أني قد سبحت للتو.



حدث هذهِ اليوم المفصلي في حياتي في كورفو، باليونان. الدولة التي حسبت أني لن أزورها إلا وأنا في الخمسينيات من عمري، لا أعرف لما. فكرنا بها أنا وزوجي بعد مُشاهدة مسلسل «آل دوريل» الذي يحكي قِصة أرملة بريطانية هاجرت بأطفالها لهذهِ الجزيرة لأسباب اقتصادية، تتعلم هذهِ العائلة العيش بمعنى مختلف عن حياة المدنية والصخب، مثل تلك في لندن، وتصقل الجزيرة شخصياتهم وتجاربهم. لم تكن لدي أية انطباعات عن اليونان. عند وصولنا، ابتهجت لما رأيت لونيّ المفضلين: زُرقة البحر واخضرار الشجر. وما إن تغلغلنا في الجزيرة، عرفت لما أحبت عائلة آل دوريل هذهِ البقعة من الأرض؛ أشجار صنوبر باسقة، مياه فيروزية صافية، وزرقاء داكنة في الأُفق البعيد، مما يخلق تباينًا ساحرًا، أكل متنوع، وجبال مصقولة. لسببِ ما، في اليونان، يبدو الزمن وكأنه قد توقف عند فجر الحضارة دون أن يلمسه أي أثر للمادية الحديثة، فالتجول في أحيائها، يثير في النفس شعورًا بالحنين إلى ماضِ مُتخيل غريب؛ شيء شبيه بما كانت عليه بيروت في أوجها، فقد توقفت عقارب الساعة فيها تحديدًا بعدما أمتهن البشر حرف الصيد والطبخ والرسم والغناء، ولم يتجرأ أحدهم بعد على جلب ماكدونالدز وأمازون. أبهجتني فكرة أني في جزيرة لا وجود للعلامات التجارية الفاخرة فيها، وإنما كانت مكتظة بالبضاعة المحلية؛ كفساتين الكتان وسروايل السباحة، والحليّ المُصممة على شكل آلهات يونانية، والصنادل البنُية المصنوعة من القش. اشتريت الكثير، وتعززت فكرة التسوق المستدام لديّ أكثر، إذ شعرت بأن كُل ما اشتريه سيعود بالنفع لهذهِ الجزيرة وسُكانها مُباشرةِ. تجنبت الإسراف أيضًا، وفكرت كثيرًا بما أحتاج إليه حقًا، وكان لذلك أثرًا مدهشً على تخففي.


المسلسل البريطاني «آل دوريل» المبني على رواية ثُلاثية كورفو
المسلسل البريطاني «آل دوريل» المبني على رواية ثُلاثية كورفو

بين السباحة، والإبحار، والتبضع، ورؤية الآثار، والمشي في الجبال (بالمناسبة، لم يكن ذلك مُمتعًا في الصيف!)، أكلنا كثيرًا، وتعلمت من المطبخ اليوناني ما تعلمته من سوقهِ: التخفف والتمسك بما هو أصيل فقط، دونما تكرار أو تغيير. فالسمك هُنا يُطبخ كما هو ثم يُرش عليه الملح والليمون. والخضار. فإما تُشوى أو تسلق، ثم تُبهر بالجبنة اليونانية، وتُرطب بالطماطم الكرزية، ويُصب عليها قليلًا من الخل للحموضة، لا شيء سوى ذلك. حظيت بالفواكه والشوفان على الإفطار، وبالبطاطس، والخضار، والمصقعة اليونانية، والحمص (ما كنت آكله كمقبلات) على الغداء، دون صلصات أو خبز أو أية بهارات، وكُنت أشبع، وأشعر بخفة مُذهلة! ولأول مرة لم نبحث عن مطعم إيطالي لتناول البيتزا أو الباستا ولم أشتهِ الكرواسون أو المعجنات السكرية، الفواكه والخضار وحدها كانت كافية وشهية!


سيدات الرواق
سيدات الرواق

في يومنا الأخير، قررنا تمديد إجازتنا ليوم واحد وزيارة أثينا. باستثناء الشواطئ والجبال القريبة، لا تختلف أثينا كثيرًا عن كورفو؛ المحال الشعبية، والمغنيين في الشوارع، والأكل المحلي، والتاريخ الآسر هو نفسه. ما بعد الظهيرة، زرنا أولًا متحف الأكروبوليس الذي يعرض الآثار والمنحوتات المعثور عليها في المعبد. كان تصميم المتحف آسرًا، حيث يحتوي على جدار زجاجي كبير يطل على أثينا كاملة وفوقها، في أعلى الهضاب، البارثينون. من بعده، صعدنا نحو الأكروبوليس، الهضبة، حيث رأينا عن قُرب بوابة بروبيليون والأكروبوليس والأقرب إلى قلبي كان معبد الارخثيون. كان منظرهُ مُهيبًا؛ غابت الشمس ذلك اليوم على مقربة من منحوتات فتيات الرواق في المعبد، أخذتُ عدة صور لهن، وأدركت في تلك الزيارة أن تلكم السيدات المنحوتات على المعبد لا تُمثلن آلهات أو أفرادًا، إنما هن مُجرد دعامات معمارية جمالية. وكأنما تواصل اليونان تعليمي إن بعض الأشياء هي كما هي، لا عُمق فيها، ولا رمزية أو قصة خلفها. نزلنا من الهضبة، بكاميرا مليئة بالصور وجسد مُتعب. وفي مرآة إحدى المقاهي، نظرت نحو نفسي، وإذ بي أبدو مُنهكة؛ شعرِ فوضوي، وملابس عشوائية اخترتها على مضض، ابتسمت وتذكرت ما أسميتهُ بالتحلل، وقلت في نفسي: ”في يومِ آخر، سأتأنق، أما اليوم، فسأمارس حقي بأن أكون برية“.


 

مقترحات ونصائح:

  • اقرأ رواية ثلاثية كورفو المبني عليها مُسلسل آل دوريل.

  • اذهب إلى: لي غروتا بار.

  • هوميروس صار مُبتذلًا، بدلًا منه، اقرأ قصائد الشاعر اليوناني Iason Depountis.

  • جرب الشاورما اليونانية (جرويس), والدولما اليونانية، والأهم طبق البوغاتسا.

  • لتجربة أفضل، احرص على تأجير سيارة.

  • ضع ملابس السباحة، دومًا، في سيارتك. فالشواطئ الجميلة في كُل مكان.

  • زر منزل عائلة آل دوريل، الذي أصبح مطعمًا وفيه تُباع كُتب وهدايا للعائلة.

bottom of page